معنى الإقرار والتصديق في كلام السلف
ورد عن بعض السلف تفسير الإيمان بالتصديق، أو وصف الإيمان بأنه تصديق وعمل، أو إقرار وتصديق، ونحو ذلك ولما كانت المرجئة -وخاصة الأشاعرة- يفسرون الإيمان بأنه التصديق القلبي- على ما سنوضحه في بابه- وهم يعنون به مجرد التصديق الخبري الذهني، الذي هو نسبة الصدق إلى المخبر أو الخبر من غير إذعان ولا قبول، كما تقول لمن أخبرك: إن وراء البحر قارة تسمى أمريكا: صدقت، أو من قال: إن مساحة المربع = طول الضلع مضروباً في نفسه : صدقت، لما كانوا يرون ذلك ويعتقدونه، سرهم أن وجدوا في ظواهر بعض كلام السلف مثل تلك الألفاظ وأنزلوها على مذهبهم.
ومن هنا وجب إيضاح معنى هذين اللفظين في استعمال السلف، فنقول: إن السلف الذين استعملوا هذين اللفظين لم يخرجوا عما ورد به الكتاب والسنة من معنى.
1- فإن التصديق في الكتاب والسنة -بل وفي لغة العرب- ليس محصوراً في التصديق الخبري، وإنما ورد كذلك في التصديق العملي، أي: تصديق الخبر بالامتثال والدعوى بالعمل، فهو بمعنى التحقيق ومنه قوله تعالى: ((وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا))[الصافات:104-105].
أي: قد امتثلت الأمر وحقيقته بإضجاعك ولدك وهمك بذبحه باستسلام وانقياد، فكأنه قد ذبحه فعلاً لأن المقصود هو عمل القلب وإسلام الوجه لله، وإلا فالله غني عن ذلك، قال تعالى: (( لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ))[الحج: 37]
وقريب من ذلك قوله تعالى: (( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ))[الزمر:32-33].
فإن أحد معانيها- وهو الأظهر- أن الصدق هو شهادة أن لا إله إلا الله -أي: الإيمان- فهي التي كذب بها الكفار، ومن جاء بها من المؤمنين مصدقاً بها -أو مصدقاً بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهـو المتقي.
كما فسّر مجاهد الصدق بأنه: القرآن، والذي صدّق به: المؤمنون، قال: [[أصحاب القرآن المؤمنون يجيئون يوم القيامة، فيقولون: هذا ما أعطيتمونا، فعملنا بما أمرتمونا]].
قال ابن كثير: ''وهذا القول عن مجاهد يشمل كل المؤمنين، فإن المؤمن يقول الحق ويعمل به''
ومنه قوله تعالى: ((إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ))[الذاريات:5] أي: متحقق لا محالة، ومنه التحقيق: ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ))[الأحزاب:23] أي: وفوا به وحققوه عملاً.
ومن ذلك آية: (( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ))[البقرة:177] التي ورد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسّر الإيمان بها كما سبق، حيث قال تعالى في آخرها: (( أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا )).
قال ابن جرير في تفسيرها: '' يعني تعالى ذكره بقوله: (( أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا )) من آمن بالله واليوم الآخر، ونعتهم النعت الذي نعتهم به في هذه الآية, يقول: فمن فعل هذه الأشياء، فهم الذين صدقوا الله في إيمانهم وحققوا قولهم بأفعالهم'' ثم روى عن الربيع بن أنس أنه قال: [[أولئك الذين صدقوا فتكلموا بكلام الإيمان، فكانت حقيقته: العمل، صدقوا الله]].
قال: "وكان الحسن يقول: هذا كلام الإيمان، وحقيقته العمل، فإن لم يكن مع القول عمل فلا شيء" .
وقال ابن كثير: ''أي هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم، لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال فهؤلاء هم الذين صدقوا'' .
وأما السنة: فقد صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {والفرج يصدق ذلك أو يكذبه} ودلالته على المراد ظاهرة.
وأما كلام العرب فكثير, ومنه قول كثير عزة- وهو ممن يحتج بكلامه- يمدح أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز:
وقلت فصدقت الذي قلت بالذي عملت فأضحى راضياً كل مسلم
وبهذا يتضح أن من قال من السلف: إن الإيمان تصديق وعمل فإنه يقصد التصديق الخبري المستلزم للإذعان والانقياد، فهي كعبارة: قول وعمل سواء.
ومثل ذلك قول من قال: إقرار وعمل.
ومن قال منهم: الإيمان هو التصديق، فمراده التصديق العملي المتضمن للتصديق الخبري العلمي، وهو احتراز ممن يكذب بعمله ما يدعيه بلسانه.
فمن الخطأ أن يظن ظان أن مرادهم هو مجرد نسبة الصدق إلى المخبر أو ما أشبهه كالمعرفة المجردة أو العلم المجرد.
وأما الإقرار فكذلك، حيث ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ))[آل عمران:81].
وقد سبق القول بأن من أسباب ضلال المرجئة -وسائر الفرق- أنهم يرجعون في تفسير الحقائق الشرعية إلى كلام الناس -المحتج بهم وغيرهم- كاستدلالهم على أن الإيمان هو التصديق بأن الناس يقولون: فلان مؤمن بالبعث -أي: يصدق-.
وكذلك قولهم في الإقرار -حيث حسبوا أن المراد به في كلام المتقدمين- هو المعروف في كتب الفقه في أبواب الإقرار والخصومات، والذي يعني الاعتراف أو تصديق دعوى الخصم.
ولو أنهم رجعوا إلى الكتاب والسنة لوجدوا الأمر بخلاف ذلك، فإن لفظ الإقرار في هذه الآية يعني إنشاء الالتزام والإذعان، ولهذا ذكر شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية أن الإقرار على وجهين:
أحدهما: الإخبار: وهو من هذا الوجه كلفظ التصديق والشهادة ونحوها, وهذا معنى الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار.
والثاني: إنشاء الالتـزام: كما في قوله تعالى: (( أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ )) [آل عمران:81] وليس هو هنا بمعنى الخبر المجرد فإنه سبحانه قال: (( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي )) [آل عمران:81] فهذا الالتزام للإيمان والنصر للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ...
فالإقرار بالمعنى الأول يقابل الإنكار والجحود، وبالثاني يقابل الإباء والامتناع، كما أن الكفر منه كفر إنكار وجحود وكفر إباء وامتناع ككفر إبليس.
وبهذا يظهر ضلال المرجئة في فهم ألفاظ النصوص ومصطلحات السلف، وإلا فلو رجعوا للكتاب والسنة، وعرفوا معنى الإقرار والتصديق فيهما، ثم فسروا الإيمان بهما على الوجه الصحيح، لما كان الخلاف بينهم وبين أهل السنة إلا لفظياً واختلاف الألفاظ وقع بين السلف كما سبق، ولكن ألفاظ المرجئة -في الحقيقة- إنما هي نتيجة لمنهجهم البدعي في التفكير والاستنباط والاستدلال.